🛑فرجال... news
دراسة في التأثير الثقافي والسياسي والإدراكي
منذ بروز الفضائيات العربية في تسعينيات القرن الماضي، برزت شبكة MBC كأحد أكثر المشاريع الإعلامية تأثيرًا في تشكيل الوعي العربي، نظرًا لانتشارها الواسع، وبرامجها المتنوعة، وقدرتها على التغلغل في الثقافة اليومية للمشاهدين. وفي العراق، بعد عام 2003 تحديدًا، أصبح تأثير القنوات العربية عمومًا و"MBC‘‘ خصوصًا، ظاهرةً مركّبة تتقاطع فيها السياسة والثقافة والاقتصاد والإدراك الجمعي.

أولًا: السياق الإعلامي العراقي بعد 2003
أفرز التغيير السياسي بعد عام 2003 فضاءً إعلاميًا مفتوحًا في العراق، تزامن مع ضعف الإعلام المحلي المهني وغياب التنظيم المؤسسي، مما جعل الجمهور العراقي أكثر انفتاحًا على الفضائيات العربية. وفي هذا السياق، شكّلت MBC نموذجًا لما يمكن تسميته بـ"الإعلام الموجَّه الناعم"، الذي يجمع بين القوة الترفيهية والتأثير السياسي غير المباشر.

فبينما انشغلت القنوات العراقية بخطابات الانقسام السياسي أو الطائفي، قدّمت MBC محتوى متنوعًا يمزج بين الترفيه والدراما والأخبار، لكنها في الوقت ذاته تُعيد تشكيل القيم والسلوكيات والأنماط الإدراكية لدى المشاهد العراقي بطريقة تدريجية وغير صدامية.
ثانيًا: أدوات التأثير الإعلامي الناعم
تستند MBC في خطابها إلى ما يمكن وصفه بـ"الهيمنة الثقافية الناعمة"، عبر أدوات متعددة، أبرزها:
1. الدراما التلفزيونية التي تعيد صياغة القيم والعلاقات الاجتماعية وفق نموذج ثقافي خليجي ـ غربي.
2. البرامج الحوارية والمنوّعة التي تُروّج لخطاب الاعتدال السياسي والاجتماعي، لكنه في كثير من الأحيان يتجاهل الخصوصيات العراقية.
3. الرسائل الإعلانية والترويجية التي تبثّ نمطًا استهلاكيًا جديدًا، يربط السعادة بالرفاه المادي والمظهر الخارجي.
4. التحكّم بالمزاج العام من خلال اختيار التوقيت والمضامين التي تتفاعل مع الأحداث السياسية أو الأمنية في المنطقة.

هذه الأدوات تجعل من المشاهد العراقي متلقيًا متأثرًا لا فاعلًا، إذ يتكوّن وعيه الجمعي من صورٍ ذهنية وإدراكات مصدرها الخارجي لا المحلي.
ثالثًا: التأثير في الرأي العام العراقي
أظهر الرأي العام العراقي في العقدين الأخيرين تحولاتٍ ملحوظة في الذوق العام، والسلوك الثقافي، وحتى المواقف السياسية، يمكن ربط بعضها جزئيًا بتأثير القنوات العربية الكبرى. فـMBC لم تكتفِ بعرض الترفيه، بل ساهمت في تطبيع نمط تفكيرٍ إعلامي عابر للحدود، يضع الهوية العربية العامة فوق الخصوصية الوطنية، ويُعيد ترتيب أولويات الجمهور العراقي بين ما هو وطني وما هو إقليمي. ومن خلال القوة الرمزية للدراما والبرامج، ساهمت هذه القنوات في إعادة تشكيل صورة ‘‘الآخر العربي‘‘ في الذهن العراقي، سواء عبر تطبيع صورة بعض الأنظمة أو تهميش قضايا عربية حساسة.

رابعًا: النتائج الاجتماعية والثقافية
يمكن رصد عددٍ من المظاهر الناتجة عن هذا التأثير، أبرزها:
تراجع الثقة بالإعلام المحلي أمام الخطاب البصري المحترف والمنمّق القادم من الخارج.
انتشار ثقافة الاستهلاك والسطحية الإعلامية على حساب القضايا الوطنية.
اختلال الوعي الجمعي بين ما يُعرض في الفضائيات وما يُعاش في الواقع العراقي.
تنامي ظاهرة الاغتراب الثقافي، حيث يشعر الشباب العراقي بانتماءٍ رمزي لثقافة إعلامية غير وطنية.

خامسًا: قراءة في الأبعاد السياسية للخطاب
على الرغم من الطابع الترفيهي الذي يغلب على MBC، إلا أن خطّها التحريري يتقاطع مع اتجاهات سياسية واقتصادية إقليمية، تُقدَّم في قالبٍ ناعمٍ وغير مباشر. فالإعلام هنا لا يخوض معركة مواجهة، بل يمارس حرب الإدراك، عبر تشكيل الصورة الذهنية للعراق والعراقيين بما يخدم خطابًا عربيًا أوسع يتبنى مفاهيم ‘‘الاستقرار مقابل التغيير‘‘ و"النموذج الاقتصادي مقابل النقد السياسي".
سادسًا: نحو إعلام عراقي منافس
إن مواجهة هذا التأثير لا تكون بالمقاطعة أو الرفض الخطابي، بل عبر بناء إعلام وطني مهني ومؤثر يمتلك القدرة على المنافسة في المحتوى والشكل واللغة. فالإعلام العراقي بحاجة إلى إستراتيجية وطنية لصناعة الوعي، تُعيد الثقة بالمحلي، وتستثمر في الدراما والبرامج الحوارية والوثائقية، بما يعكس تنوع المجتمع العراقي وثراء ثقافته.
ختاما
إن نموذج MBC يوضّح أن الإعلام العربي لم يعد مجرد ناقلٍ للخبر أو منصةٍ للتسلية، بل أصبح فاعلًا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا يسهم في توجيه الوعي وصناعة الانطباعات. وفي ظل هشاشة المنظومة الإعلامية العراقية، يتضاعف هذا التأثير، ليجعل من المشاهد العراقي هدفًا مفتوحًا لـ"الهيمنة الرمزية‘‘ التي تمارسها القوى الإعلامية الكبرى.
ومن هنا، فإن إعادة بناء المشهد الإعلامي العراقي باتت ضرورةً وطنية، لا مهنية فحسب، لحماية الوعي العام من الاختراق الثقافي والتوجيه الخفي للرأي العام.
