🛑فرجال...news
د. ناجي الفتلاوي
عملتُ في الإعلام سنواتٍ طويلة، وكنت أظنّ أنني أقترب من الحقيقة كلّما اقتربتُ من الضوء، وأنّ الكاميرا تلتقط الوجوه لتكشف ما وراءها ،لكنني، بمرور الوقت، اكتشفت أن الضوء كثيرًا ما يُعمينا، وأنّ الكاميرا لا ترى إلا ما يُسمح لها أن تراه ،في هذا العالم اللامع الذي يبدو مليئًا بالحضور، اكتشفتُ الغياب الأكبر: غياب المعنى، وغياب الصدق، وغياب البساطة، عرفتُ أن وراء الماكياج والابتسامات المضيئة عوالم من القلق والفراغ، وأنّ المظاهر ليست سوى ستارٍ يُخفي هشاشة الإنسان حين يبتعد عن ذاته ، من قلب تلك التجربة الإعلامية، أدركت أن التقدّم في العمر لا يعني تراجعًا عن الحياة، بل انسحابًا واعيًا من مسرح الزيف، من لعبة التجميل الدائم للظاهر وإهمال الجوهر ،
إنه أشبه بتخلّي الطائر عن التحليق في العواصف، واكتفائه بأن يُحلّق في سماءٍ هادئة، أقرب إلى الله وأقرب إلى نفسه ، من زاوية أخرى ومن منظورٍ روحي، الشيخوخة ليست انحدارًا نحو النهاية، بل صعود نحو المعنى ، فكلما تراجع الجسد عن صخبه، اقتربت الروح من صفائها، وصارت تسمع الهمس الإلهي الذي كان يغرق في ضجيج الحياة ، وفي قول لاحد الحكماء تأمل وولوج الى عالم يطرد الضوضاء المرتبطة بعالم المادة حيث يقول :
"إنك لا تكبر حين يشتعل الشيب في رأسك، بل حين تهدأ رغبتك في أن تُدهش الآخرين."
فالنضج الحقيقي لا يُقاس بالسن، بل بالمسافة التي تقطعها الروح في طريق الفهم حين تدرك أن ما كنت تظنه قمة المجد لم يكن سوى غبار شهرةٍ مؤقتة، وأن ما كنت تراه فقرًا كان في الحقيقة غنى عن الناس في القرن 21 صارت الدنيا في عصرها الجديد مسرحًا كبيرًا، يتبارى فيه الناس على الظهور، لا على الجوهر ،ومنصات التواصل تحولت إلى مزادٍ للأوهام، تُعرض فيها المظاهر كما تُعرض السلع، ويُقاس الإنسان بعدد المتابعين لا بعدد المواقف ، هنا يتجلى فساد الروح المعاصرة ،فكلّ ما يُروَّج له اليوم هو المظهر، لا القيمة؛ الصوت العالي، لا الحكمة؛ الصورة، لا الحقيقة ، لقد أضاع الإنسان علاقته بنفسه حين جعل الآخرين مرآته الوحيدة لكن من يتقدّم في العمر، من يرى الدنيا بعينٍ خبرت الزيف، لا يعود يلهث وراء الضوء، بل يبحث عن السكون، عن وجهٍ لا يحتاج إلى تبرير، وعن قلبٍ صافٍ يرى الله في كل شيء،وحتى لا يفهم كلامي على غير ما اقصد فإن الانسحاب المقصود من عالم المظاهر ليس انسحابًا من الحياة، بل عودة إلى الحياة ، فكلما تحرر الإنسان من وهم الصورة، ازداد قربًا من الحقيقة.
وكلما تخلّى عن التكلّف، صار أجمل، لأن الصدق وحده يجمّل الوجوه، والسكينة وحدها تُشعّ من الداخل،انّ الروح لا تشيخ، لكنها تُرهق من المظاهر ،فحين تضعف الرغبة في المقارنة، وتنطفئ حاجة التصفيق، يبدأ الإنسان يُشبه نفسه أخيرًا، بعد أن قضى نصف عمره يُحاول أن يُشبه الآخرين ،فيا من تكبرون في العمر وانا منكم ، لا تخافوا من التجاعيد، فهي ليست علامات فناء، بل خرائط عودة إلى الذات ،ويا من ما زلتم في ربيع الحياة، لا تنتظروا الشيب لتفهموا أن الجمال لا يُشترى، وأن القيمة لا تُقاس بما يُرى ،الحكمة الحقيقية أن نشيخ باكرًا في وعينا، أن ننسحب من زحام الزيف قبل أن يُسقطنا، وأن ندرك أن المعنى أوسع من المظهر، وأن ما يبقى في النهاية هو صدق التجربة، لا بريق الواجهة ،في النهاية، كما قال أحد العارفين:
“من عرف نفسه، استغنى عن أعين الناس.”