🛑 فرجال ... news
ليس الفن التشكيلي مجرد انعكاس لواقع محسوس أو خيال مجنح بل هو منظومة إدراكية معقدة تعيد ترتيب علاقتنا بالعالم وتوسع أفق وعينا بما لا يقال ولا يُلمس ولا يُشرح إنه الشكل الذي ترتديه الفكرة عندما تعجز اللغة عن احتوائها والنافذة التي يطل منها اللاوعي على ساحة الإدراك الواعي.في الفصول الدراسية كثيرا ما يختزل التعليم في جداول معادلات وقواعد لغوية. لكن الإنسان لا يتعلم بالأرقام فقط بل بالأحاسيس بالدهشة وبما لا يُقال. وهنا يدخل الفن التشكيلي لا كزينة تربوية بل كقوة معرفية كامنة تعيد للتعليم بعده الأصيل التأمل والتساؤل والخلق.الفن التشكيلي ليس مجرد أداة ترفيهية في التعليم بل وسيلة لإعادة تشكيل الإدراك. حين يُدرس الفن في بيئة تعليمية لا يتعلم الطالب كيف يرسم فقط بل كيف يرى كيف يفكك المعنى من الصورة وكيف يعيد بناءه بطريقة جديدة ذاتية خلاقة. في لحظة مواجهة الطالب للفرشاة يصبح التعليم حالة وجودية لا تلقينية حالة من التفاعل لا التلقي من البحث لا الحفظ من إنتاج المعنى لا استهلاكه.في الفن الإدراك المعرفي لا يأتي من التكرار بل من الصمت أمام الألوان من الحيرة أمام الفراغ، من محاولة تحويل الشعور إلى شكل. وهذه المحاولات هي قلب التعليم الحقيقي. فحين يرسم طفل بيتا بأبواب مفتوحة أو إنسانا بلا عينين فإنه لا يخطئ بل يعلمنا كيف يرى العالم بطريقته.الفن التشكيلي هو ليس مادة قائمة بذاتها فحسب بل هو نسغ يمكن أن يسري في شرايين التعليم بأكمله لينقله من الصلابة إلى الليونة ومن التلقين إلى الحياة. فحين ننظر إلى الفن التشكيلي بوصفه أداة تربوية فإننا لا نحصره في دروس الرسم بل نراه جسراً يصل بين الفكرة والإحساس بين المعادلة والخط بين القصيدة واللون بين العالم المجرد والعالم المجسد.هو ليس ترفاً بصرياً ولا مجرد خط ولون يملأ فراغ الجدران. إنه لغة تربوية عميقة تخاطب الحواس أولاً ثم تسير بها نحو مناطق أكثر تعقيدا في العقل والروح. في الفن يولد الإدراك لا من سلطة التعليم المباشر بل من انفعال داخلي يتدرج من الدهشة إلى التأمل ومن الحس إلى المعرفة ومن التلقي إلى الإبداع. حين يمسك الطفل أول فرشاة لا يرسم ما يعرف بل يرسم ما يشعر. وهنا تكمن أولى البدايات التربوية للفن أن يكون وسيلة لفهم النفس قبل أن يكون وسيلة لفهم العالم. إن التعبير الحسي في الفن التشكيلي ليس إلا بوابة أولى نحو تفكيك الذات وتكوين رؤيتها الخاصة لما تراه وتحويل التجربة الشخصية إلى رموز بصرية تُفصح دون كلمات.البعد التربوي في الفن لا يقوم على التلقين بل على التكوين. فالفن يعلم دون أن يشرح ويربي دون أن يعظ ويزرع الأسئلة أكثر مما يمنح الأجوبة. في لحظة صمت أمام لوحة ما يبدأ الذهن بالتفكير والنفس بالتفاعل والخيال بالعمل. وهكذا ينتقل المُتعلم من حس الألوان والخطوط إلى إدراك المعاني ثم إلى تفكيكها وربما إعادة تشكيلها وفق رؤيته الذاتية. وهذه هي التربية بأصفى صورها أن نعلم الإنسان أن يرى، لا أن نحشو عينيه بما نراه نحن.الفن التشكيلي في بعده التربوي هو مرآة مزدوجة واحدة يرى فيها الفنان ذاته والثانية يرى فيها المتلقي احتمالات ذاته. هو لا يكتفي بأن يُنمي الذوق بل يُربي على التعدد والاختلاف على تقبل الغموض وعلى احترام الإبهام كجزء من التجربة الجمالية والمعرفية. ومن هنا يصبح الفن طريقاً للإدراك لا لأنه يقدم المعرفة جاهزة بل لأنه يوقظ في المتلقي رغبة الاكتشاف وقلق السؤال ونشوة التأمل.وفي زمن طغى فيه التعلم الرقمي وسادت فيه السرعة يبقى الفن ملاذاً تربوياً يعيد للإنسان بطء النظر وعذوبة الصمت وقدسية التفكر. إنه لا يربي على المعلومة بل على المعنى. ولا يدرب على الحلول بل على التأمل. ومن هذه الزاوية فإن الفن لا ينتمي فقط إلى الجماليات بل إلى الفلسفة إلى الإنسان في أعمق تجلياته الوجودية.في الفن التشكيلي يتعلم الإنسان أن يدرك قبل أن يحكم أن يشعر قبل أن يُنظر وأن يندهش قبل أن يُقارن. إنه تربية حسية ومعرفية تُعيد التوازن بين اليد والعين بين العقل والقلب بين الذات والعالم.فليكن الفن إذا في صلب العملية التربوية لا كمادة تكميلية بل كمسار وجودي يربي الإنسان على أن يكون أكثر من متعلم أن يكون مبدعاً حراً واعياً وقادراً على الرؤية بعيون لم تلوثها العادة لأن الفن ليس ما يُرسم فقط بل ما يُربى فينا ونحن نرسم.كما ان الفن التشكيلي والتكامل البيداغوجي يوظيف الإبداع في مختلف المواد الدراسية حيث إن التكامل البيداغوجي ليس شعاراً تربوياً حديثاً بل هو فلسفة قديمة في ثوب جديد أن لا تبقى المعرفة حبيسة الجدران المتوازية للمواد الدراسية بل أن تتشابك تتنفس وتعبر عن نفسها عبر أدوات متعددة. وهنا يطل الفن التشكيلي كصوتٍ ثالث لا يُلغي الرياضيات ولا يهمش الجغرافية بل يمنح كليهما بعداً مرئياً إنسانياً تعبيرياً.تصور أن تُعلم التلميذ التاريخ من خلال رسم الحقبة لا حفظ تواريخها أن يُصور الحروب بلون الألم والسلام بلون الفجر وأن يتخيل شخصيات الماضي لا كمجرد أسماء بل كوجوه مرسومة بيد ترتجف أو تبتسم. تصور أن يدخل الطفل عالم العلوم وهو يرسم الخلية أو يصور حركة الكواكب لا عبر الحفظ الجاف بل عبر تفاعل بصري حي يعيد للعقل دهشته الأولى.الفن التشكيلي هنا لا يكون مادة مضافة بل عدسة ينظر منها الطالب إلى بقية المواد. عدسة تحرك الخيال وتوقظ الحواس وتخلق علاقة حميمية بين المتعلم والمعرفة. فالعقل لكي يتعلم لا يحتاج إلى تكديس بل إلى دهشة. ولا إلى التكرار بل إلى تجربة حية تزرع في الذاكرة أثراً لا يُمحى.إن التكامل البيداغوجي لا يعني أن نحشر الفن داخل العلوم بل أن نسمح له بأن يلونها. أن يُعيد للغة بُعدها الإيقاعي البصري أن يجعل الرياضيات أكثر إنسانية وأن يمنح الجغرافيا نبضاً وشكلاً. فالفن يعلمنا أن كل معرفة يمكن أن تُروى بطريقة أخرى أن كل معلومة يمكن أن تُرى كما تُقرأ وأن الإدراك ليس حكراً على الحروف بل قد يبدأ بخط بسيط على ورقة بيضاء.حين نُدرس الفن في المدارس فإننا لا نُعلم التلاميذ كيف يصبحون فنانين بالضرورة بل كيف يصبحون أحراراً في تفكيرهم واسعين في إدراكهم عميقين في شعورهم. نُعلمهم أن المعرفة لا تقتصر على ما يُكتب بل تمتد إلى ما يُحس ويُرى ويتخيل ويُرسم.الفن التشكيلي يعيد للتعليم طبيعته البشرية حيث يصبح التعلم ليس مجرد تراكم معلومات بل رحلة وعي تُبنى على الإدراك البصري والانفعال الجمالي والتحليل العقلي.إنه الجسر بين الفكرة والصورة بين اليد والعقل بين الداخل والخارج.فإذا أردنا تعليماً يخلق أجيالاً تُفكر لا فقط تُكرر.. تُبدع لا فقط تُتقن.. فليس علينا أن نضيف الفن كفقرة في المناهج بل أن نجعل منه روحاً للتعلم ولغة جديدة للإدراك.في النهاية ليس الفن التشكيلي طرفاً في العملية التربوية بل هو قلبها حين تُفتح له الأبواب. إنه تعليم بلا أوامر،ط فهم بلا شرح وحوار بلا صراخ.إنه فلسفة التعلم الحي حيث تكون الألوان هي اللغة والخط هو الفكرة واللوحة هي الفصل والطالب هو الفنان والمعلم معاً..
