*بين دولة تصنع القادة... وأخرى تُربكها المناصب*
🛑فرجال... news
*الكاتب: د.أحمد الخاقاني*
*الحلقة الثانية* *الواقع العراقي بين العثرات والفرص* :
وإذا ما ألقينا نظرة إلى بلدنا العزيز العراق، الذي يمتلك من المؤهلات ما قد يفوق كثيرا من الدول، من حيث الإمكانات البشرية الهائلة، والتاريخ العميق، والثروات الطبيعية، والموقع الجيوسياسي الفريد، لوجدنا أن تجربة الدولة فيه ما زالت تعاني من التعثر، رغم مرور أكثر من عقدين على سقوط النظام الاستبدادي البعثي، وما أعقبه من انفتاح سياسي وإمكانية تأسيس نظام ديمقراطي رشيد. فالعراق، الذي أنجب العلماء والمفكرين، واحتضن الحوزات، وأخرج من رحم معاناته شهداء وقادة وطنيين كبار، لم يتمكن حتى اليوم من بناء دولة مؤسسات حقيقية على مستوى الثبات والهيكلة والتخطيط المتين. وذلك لا يعود إلى فقر في الطاقات ولا إلى نقص في الرغبة، بل إلى عدة علل بنيوية مزمنة، أبرزها غياب المشروع الوطني المتكامل، وتَغَلب الولاءات الفرعية على الولاء للكيان الجامع، فضلا عن التنازع الحزبي الذي حال دون تأسيس مؤسسة تكون أكبر من الأشخاص، وأبقى من القيادات العابرة. ففي العراق، لا تزال المناصب تدور في فلك المحاصصة، لا في فلك الكفاءة، والوزارات تُدار غالبا كحصص حزبية، لا كأجهزة خدمية وطنية، أما البديل عند غياب مسؤول ما، فغالبا ما يُجلب من خارج السياق المؤسسي، لا من داخل المؤسسة نفسها، لأن الأخيرة لم تُبنَ على ثقافة التدرج والتخطيط الطويل الأمد، بل على مبدأ ‘‘الموقع لمن يملكه الآن"، لا لمن أُعد له بعناية من قبل. ولذلك، فإن الفقد المفاجئ لشخصية إدارية أو أمنية أو خدمية بارزة، قد يُربك الجهة التي ينتمي إليها، ويُحدث فراغا حقيقيا، ليس لأن العراق لا يمتلك البدلاء، بل لأن هؤلاء البدلاء لم يُصنعوا داخل المؤسسات بقدر ما وُجدوا على هامشها، ينتظرون القرار السياسي لا المسار الإداري. "إنّ من لا يُقيم أمر نفسه، يُقيمه غيره، وقد يكون ذلك الغير أجهل منه بأمره." وهذا ما يحدث حين لا تكون المؤسسات أقوى من الأفراد، وحين يُقدم الولاء قبل الكفاءة، والشعار قبل البناء. وشتان بين تجربة دولة تُخطط لورثة القيادة والمؤسسة قبل أن تفكر في قائدها الحالي، وبين أخرى تُفاجأ بالفراغ كلما غاب اسم أو تبدلت تحالفات. ومع ذلك، فالأمل في العراق لا يزال حيا، وما زالت هناك نخب وطنية صادقة تحمل بذور المشروع، وتدعو إلى أن تُبنى الدولة العراقية الحديثة لا على أنقاض التجاذب، بل على أسس التخطيط، والعقلانية، والرؤية المستقلة. فالعراق ليس أقل من أن يبني مشروعه، لكنه بحاجة إلى إرادة تتجاوز الآني والمصلحي، وتتطلع إلى مستقبل يليق بتاريخه وأهله.
*خاتمة المقال الأول*: ليست الفوارق بين الدول في الجغرافيا ولا في الثروات، بل في الرؤية التي تحول الطاقات إلى مؤسسات، والرجال إلى مشاريع، والغياب إلى فرصة لا إلى كارثة. فبينما تُنبت بعض الدول قادتها من عمق المؤسسة، تظل أخرى تلهث خلف البدائل في كل منعطف. ولعلّ العراق، بتاريخ حضارته وخصوبة أرضه البشرية، لا ينقصه شيء سوى إرادة تتجاوز الأسماء، وتبني الوطن بمنطق المشروع لا منطق اللحظة. فحين تصنع الدولة رجالها كما تُصاغ المعادن النفيسة، تصبح المناصب مجرد أدوات... لا مفاجآت.